الشعيرية، الإطرية، العطرية، الرشتة، المعكرونة، الباستا، النودل، الفداوش، إلخ، جميعها أسماء تطلق على العجينة التي تُطبخ سواء طرية أو بعد تجفيفها، ونتناول في هذا المقال تاريخ المعكرونة عند العرب. وخلاصة الموضوع، عندما تتناول طبق معكرونة في المرات القادمة، تذكر أن هذا ليس بطبق إيطالي بحت!
والكثير قد يتسائل ما هو أصل المكرونة؟ من اخترع المكرونة؟ والإجابة المباشرة غير معروفة، لكن يمكننا أن نتصور أن البدايات كانت في منطقة بلاد الرافدين وبلاد الشام حيث بدأت زراعة الحبوب. والمقصود في البدايات طبخ العجين بالماء مباشرة أو طبخ الخبز أو فتتات الخبز بالماء.
وليس المستغرب أن تكون بدايات المكرونة قديمة جداً تسبق ربما البابليين والسومرييين إذ أن الخيارات الأكثر بداهة للإنسان القديم لطبخ العجين هي إما بإلقائه على النار مباشرة أو على حجر قريب من النار. ثم هناك خيار آخر، وذلك في مرحلة لاحقة، وهي أن تطبخ العجينة بالماء كما تطبخ أي مكونات أخرى مثل اللحوم والخضروات.
أما طبخ الحبوب مثل القمح والشعير وغير ذلك سواء كما هي أو بعد جرشها أو طحنها، فإنه يعود إلى مراحل أبعد من ذلك بكثير إذ يعتقد أن الإنسان بدأ تناول الحبوب البرية قبل تدجينها بعشرات الآلاف من السنين.
لكن أقدم طبق مكرونة أو بالأحرى نودل كما نعرفها اليوم، أي عجينة معمولة على شكل خيوط سميكة، عمره حوالي 4 آلاف سنة اكتشف في الصين، وهو معمول من نوعين من الدُخن. وطُمر الطبق تحت طبقات من الرواسب قبل اكتشافه، ويدل الطبق على مهارة صانعه إذ أن خيوط النودل محكمة الصنع مما يعني أن اختراع الطبق سبق تلك الفترة بمدة طويلة يصعب التكهن بقدرها.
وتوجد عدة ألواح من بلاد الرافدين تعود إلى حوالي 1700 قبل الميلاد وتحتوي على عدة وصفات لما يمكن أن يُسمى مكرونة. ومن الممكن أن تشكل هذه الأطباق أصل الثريد والمكرونة في المنطقة العربية. وإحدى الكلمات المستخدمة للتعبير عن المكرونة أو العجين أو الخبز المطبوخ في اللغة البابلية هي “رسناتو”، التي قد تكون مشتقة من كلمة “رَسانو” البابلية بمعنى نقَعَ أو خمَّر.
يوجد في المغرب العربي طبق يُعرف في الجزائر باسم “الرشتة” وليبيا “الرشدة” وتونس “دويدة” وكلها عبارة عن نوع من الشعيرية أو الباستا. في فلسطين طبق يعرف بالرشتة أو الرشتاية وهو طبق عدس وعجينة معمولة على شكل اسبتاجيتي أو لنجويني. الشاهد في هذه الأطباق هو الاسم، خاصة رشتة. فكلمة رشتة، وهي فارسية الأصل، هي بحق أحفورة حقيقية تدلنا على عمق تاريخ الإطرية أو المعكرونة في المطبخ العربي العريق الذي يسبق الإسلام بآلاف السنين (والعربي هنا إشارة إلى المنطقة العربية وليس الجزيرة العربية فحسب). والسؤال هو إن كانت كلمة رِشتة الفارسية تعود إلى كلمة “رسناتو” البابلية؟
وبالإضافة إلى البابليين والصينيين، عرف الرومان شكلاً من العجين المرقوق المقلي الذي عرف باسم “لاغانا” وهي ما جعلت البعض يظن خطأ أنها أصل طبق اللازانيا. لكن الواقع أن هذا أقرب إلى عجين مقلي منه إلى الإطرية سواء بشكلها الطازج أو المجفف.
تاريخ المعكرونة في المنطقة العربية
وأحد أقدم ذكر في أدبيات التراث العربي لهذا اللون من الأكل جاء نقلاً عن الليث اللغوي صاحب الخليل ابن أحمد الفراهيدي، مؤلف كتاب العين، والذي عاش في القرن الثامن الميلادي. وكما نقل الأزهري عنه فإن الإطرية، المعكرونة، كانت من طعام أهل الشام، وهو ما يوحي ربما أن الكلمة انتقلت إلى العربية عبر السريانية.
وينقل الرازي عن الطبيب اليوناني جالينوس الذي عاش في القرن الثاني الميلادي قولاً عن الأطرية، معرفاً إياها ب: “جميع ما يتخذ من الفطير الغليظ كثير الغذاء”. وهذا لا يوضح شيئاً عن ماهية الإطرية سوى أنها معمولة من عجين غير مخّمر (وهو تعريف الفطير في لسان العرب). وكلمة إطرية التي ذكرها الرازي، واللغويون من قبله، ترجع إلى الكلمة اليونانية “إتريون” والتي كانت تعني أساساً نوعاً من الحلوى المصنوعة من السمسم والعسل ثم تطورت في القرن الثالث لتعني عجينة مُعدة للغلي.
وبحسب “هارلان ووكر” فإن “تلمود القدس”، الذي كتب قبل القرن الخامس الميلادي بالآرامية الفلسطينية، احتوى على ذِكريْن لكلمة إطرية. في واحد من السياقين يجري الحديث عما إذا كان رق كميات كبيرة من الإطرية وتجفيفها محرّم فيما يجوز طبخها وهي طازجة. إذا صح الاستنتاج، فإن الإطرية أو المعكرونة قد تكون موجودة بشكليها المجفف والطازج في بلاد الشام منذ القرن الرابع الميلادي إن لم يكن قبل ذلك.
على كل حال وبغض النظر عن مصدر الإطرية الأصلي، يبدو أن ثمة علاقة بين وجود العرب في صقلية وانتشار صناعة الباستا فيها دوناً عن غيرها من المناطق الإيطالية، حتى وإن كان البيزنطيون عرفوا شكلاً من أشكال الإطرية في يوم من الأيام.
ويذكر الإدريسي (ت 1166) في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” في سياق حديثه عن صقلية، وهي فقرة مهمة جداً لتاريخ المعكرونة إذ أنها أول ذكر واضح لصناعة المعكرونة في أوروبا: “وبجانبها الغربي محل يعرف بالتربيعة وهو من المنازه البديعة وبه مياه جارية وعليه كثير من الأرحاء ولها بادية ورباع واسعة ويصنع بها من الأطرية ما يتجهز به إلى كل الآفاق من جميع بلاد قلورية وغيرها من بلاد المسلمين وبلاد النصارى ويحمل منها الأوساق الكثيرة.”
أكلات معاصرة من تاريخ المعكرونة في المنطقة العربية
– الرشتة الجزائرية: ولها رديف ليبي يُطلق عليه “رشدة” (من الواضح أن التاء أُبدلت دالاً) وفي تونس “دويدة” تطبخ الشعيرية أو الرشتة بالتبخير كما هو الحال مع الكسكس في كل من الطريقة الليبية والجزائرية والتونسية. وفي حالة الجزائرية تقدم مع دجاج ولفت وحمص حب وبصل وتتبل بالفلفل والقرفة. والعجينة نفسها تُعمل من جزئين سميد ناعم وجزء طحين وماء وقليل من الزيت والملح، وبعد تمليكها وإراحتها، تقطع على شكل شَعر. وتعرف الرشتة في فلسطين باسم رشتاية حيث تضاف العجينة المعمولة على شكل خيوط إلى طبيخ معمول من العدس الحب.
تعرف على طريقة عمل الرشتة الجزائرية
– الشعيرية والعطرية: وهي نفس فكرة الرشتة وتشيع في مصر والمشرق العربي حيث تضاف إلى الأرز. كما يُعمل منها الشعيرية الفلسطينية (بالسكر والقرفة) والبلاليط الخليجية (يضاف لها السكر والهيل والبيض)، والسفة المغربية (السكر والقرفة). وعلى عكس الرشتة التي يبدو أنها تُصنع كثيراً في البيوت فإن الشعيرية تكون مجففة ومتوفرة في الأسواق على شكل أعشاش، وتُكسّر لدى طهيها. وأصل الشعيرية أنها كانت تعمل من عجين على شكل حبات شعير وتسلق مع اللحم. وتعرف الشعيرية في اليمن باسم العطرية، وفي إثيوبيا باسم إتريا. ويطبخ البرتغاليون الشعيرية كالأرز بالحليب ويضاف وتزين بالقرفة بطريقة شبيهة بتزيين السفة المغربية، ويعرف الطبق البرتغالي الذي يبدو أن أصوله عربية باسم الإتريا aletria.
– الفداوش: هناك طبق مغاربي يعرف باسم الفِداوش، أو فِدَوش أو الفداويش (هل للكلمة علاقة بكلمة فتّوش؟). والفداوش عبارة عن طبق معكرونة طويلة تشبه الشعيرية تطبخ بالدجاج أو بغيره، وحديثاً يُعمل بأي نوع من المكرونة. ويبدو أن منها جاءت الكلمة الإسبانية fideos بنفس المعنى وكلمات شبيهة في اللغات الكتالانية والبرتغالية.
– الكسكس، المفتول، المغربية: وهو يعتمد على نفس فكرة الباستا من حيث استخدام السميد كعنصر أساسي لعمل العجينة.
تعرف على طريقة عمل المفتول الفلسطيني، والكسكس المغربي.
– شيش برك: وهي ما يطلق عليه “مانتي” في تركيا، وهي أشبه بالرفيولي الإيطالي أو الدمبلنغ الآسيوي، وغالباً ما تُحشى باللحم الضاني. وهي بلا شك تقع ضمن عائلة الباستا والنودل والدمبلنغ. ولعل أقرب شيء إلى الشيش برك هو الرشتة التاريخية التي كانت تُطبخ بإلقاء قطع العجين في قدر من اللحم وطبخهم معاً.وطريق الحرير القديم حافل بوصفات متنوعة للنودل والمانتي أو الرفيولي، وهي أطباق آسيوية عريقة في القدم.
تمواضع ذكر الإطرية وأشباهها في أدبيات التراث العربي
– الرازي (ت 923)/الحاوي: “إطرية؛ قال (جالينوس): جميع ما يتخذ من الفطير الغليظ كثير الغذاء، والاطرية كذلك”.
– الأزهري (ت 981)/تهذيب اللغة: “قال شمر: الإطرية شيء يُعمل مثل النشاستج المتلَبِّقَه. وقال الليث: يقال له: الأطريةُ، وهو طعام يتَّخذه أهل الشام ليس له واحد، قال: وبعضهم يكسر الألف”. ويُبَيّن قول الأزهري أنه الإطرية كانت شائعة في بلاد الشام، وليس ببعيد أن تكون قد كانت جزءاً من المطبخ الشامي منذ زمن بعيد.
– محمد ابن الحسن البغدادي (عاش في القرن الثالث عشر الميلادي)/كتاب الطبيخ (ص 30): “ثم يزاد عليه الماء ويغلي حق غليانه، ثم تُطرح الرشتة، وهي عجين يُعجن فيه، ويُبسط رقيقاً، ثم يعجن سيوراً دقاقاً طول أربع أصابع”. (كتب الطبخ القديمة تحتوي على عدة وصفات عجين مطبوخ منها الإطرية، والشعيرية، والرشتة كما في كتاب البغدادي).
– ابن سينا (ت 1037)/الأدوية المفردة من كتاب القانون في الطب: “إطرية: الماهية: نوع من المطبوخ ويسمى في بلادنا رشتة هي كالسيور (قطع جلدية شريطية الشكل تستخدم لربط الأحذية)، يتخذ من العجين، ويطبخ في الماء بلحم وبغير لحم.”
– محمد ابن أبي بكر الرازي (ت 1267م)/مختار الصحاح: “الْإِطْرِيَةُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ ضَرْبٌ مِنَ الطَّعَامِ.”
– ابن بطوطة (ت 1377)/الرحلة: في سياق حديثة عن إقامته في جزر المالديف: “والقلقاص، وهم يصنعون من أصوله دقيقاً يعملون منه شبه الأطرية، ويطبخونها بحليب النارجيل، وهي من أطيب الطعام. كنت استحسنها كثيراً”. (يوجد تحلية تايلندية شبيهة بوصفة القلقاس هذه، لكن يخلط مع القلقاس طحين الأرز [لعلها معلومة مفيدة لمؤرخي الطبخ الآسيوي]). وفي الرحلة أيضاً: “ولقد حضرت يوماً عند السلطان أوزبك في رمضان، فأحضرت لحوم الخيل، وهي أكثر ما يأكلون من اللحم، ولحوم الأغنام والرشتا، وهو شبة الأطرية، يطبخ ويشرب باللبن.” (الشعوب التركية لا زالت تقدم المانتي مع اللبن الطازج.)
– السيوطي (ت 1505)/تحرير الأنساب “الشعيرية: طعام من العجين معروف للشعير، لكونه في الأصل على شكله.”
– دوزي/تكملة المعاجم (طبع 1881): “رِشْتة (فارسية): نوع من الشعرية (المكرونة) (ابن البيطار 1: 55)”، وفي التكملة أيضاً: “شعيرية: عجين يفتل ويحبب حبوباً صغيرة مستطيلة كالشعير، ثم يجفف ويطبخ ويقال لها الشُعيرية أيضاً بلفظ التصغير، والشَعيرية والشُعيرية كلاهما من كلام العامة (ص469 محيط المحيط).”
– نزيه مؤيد العظم/رحلة فى بلاد العربية السعيدة من مصر الى صنعاء (الرحلة سنة 1936): “وشعيرية مطبوخة مع البيض على طريقة طبخ المعكرونة، وعندما قدموا الشعيرية قال العامل: تفضل، كل من معكرونة اليمن.”